الوصف
من مُقتضيات مبدأ المشروعيَّة أنْ تعملَ كلُّ سُلطةٍ من السُّلطات الثلاث في الدولة (التشريعيَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة) في الحدود المرسومة لها في الدستور، وقد شُرعت الرقابة الدستوريَّة لحمل تلك السُّلطات على الالتزام بحدود الدستور ونطاقه. ولا شكَّ في أنَّ مبدأ الفصل بين السُّلطات وُجِدَ لتحقيق مبدأ المشروعيَّة وفَرْض حكم القانون على الجميع بما يُمليه من أنَّ خضوع الحاكم والمحكوم للقانون الوضعيِّ يُمَثِّلُ شكلاً من أشكال السُّلطة، أو هو تعبيرٌ عن إرادة السُّلطة التشريعيَّة.
ولم تفرض الدساتيرُ قيدًا صريحًا أو ضمنيًّا على مُمارسة السُّلطة التشريعيَّة لاختصاصها من حيث الهدف من التشريع والمصلحة المرجوَّة ومدى المُلاءمة في وقتٍ مُعَيَّن، وفي سبيل ذلك تملكُ السُّلطة التشريعيَّة سُلطةً تقديريَّةً في مُمارسة هذا الاختصاص، فقد تركت الدساتيرُ حريَّة تقدير الأهداف والمُلاءمة لممثِّلي الشعب في النطاق الذي يرسمه الدستور، وبالتالي فكرة ضرورة التشريع أو عدم ضرورته تعدُّ جوهرَ السُّلطة التقديريَّة للمشرِّع.
لكنَّ السُّلطة التقديريَّة للمشرِّع لا تعني التصرُّف في وظيفته وكأنه حقٌّ ينفردُ به، وإنما هو اختصاصٌ مُخَوَّلٌ بموجب أحكام الدستور، وأيُّ خروج عن تلك الأحكام يعدُّ مُخالفًا للدستور.
وتأثَّر شُرَّاحُ القانون الدستوريِّ بخصوص فكرة الإغفال التشريعيِّ، بنظريَّة امتناع الإدارة عن مُمارسة اختصاصاتها التي تستمدُّها من القانون، ورقابة القاضي الإداريِّ لسلوكياتها وإدانتها بعيب “الاختصاص السلبي”.
لقد لعب القضاءُ الدستوريُّ – إضافةً للفقه – دورًا في ترسيخ فكرة الإغفال التشريعيِّ، وقد نصت بعضُ الدساتير على هذه الفكرة صراحة، كأحد العيوب الدستوريَّة التي تستوجبُ الرقابة عليها. ويتحقَّقُ الإغفالُ التشريعيُّ إذا أغفل المشرِّعُ بمُناسبة تنظيمه لموضوع من الموضوعات الواردة في الوثيقة الدستوريَّة أحد جوانبه بما قد يؤدِّي إلى الحدِّ من فاعليَّة الموضوع محل التنظيم من ناحية، ومُخالفة أحد أو بعض النصوص الدستوريَّة من ناحيةٍ أخرى. ومع ذلك إذا تدخَّلَ المشرِّعُ وتنفيذًا لحكم الدستور بتنظيم موضوعٍ مُعَيَّنٍ فإنَّ تدخُّلَهُ يجبُ أنْ يكونَ متكاملاً من جميع الجوانب مُفعلاً لجميع الضَّمانات الدستوريَّة لهذا الموضوع، بحيث إذا أغفل المشرِّعُ جانبًا من جوانبه الذي لا يكتمل التنظيمُ إلاَّ به فإنَّ ذلك من شأنه أنْ يُقَلِّلَ من الضَّمانات الدستوريَّة لهذا الموضوع، ويكون مُخالفًا لأحكام الدستور.
وقد لا يتناولُ المشرِّعُ أحدَ الموضوعات الدستوريَّة بالتنظيم من الأساس على الرغم من التزامه الدستوريِّ بذلك، وهو ما يُسَمَّى بالسكوت التشريعيِّ أو الإغفال الكليِّ؛ ذلك أنَّ تقرير الحاجة إلى التشريع، ومن ثم التدخُّل لتنظيم الموضوع محلِّ التشريع أو عدم الحاجة إليه، أو عدم التدخُّل – أي السكوت – يعدُّ أهمَّ خصائص السُّلطة التقديريَّة للمشرِّع، ومن ثمَّ فإنَّ السكوت عن تنظيم موضوع من الموضوعات الدستوريَّة لا يعدُّ من قبيل الإغفال التشريعيِّ؛ إذ لا توجد صلةٌ بين الحاجة إلى التشريع وبين دستوريته.
وتعتمدُ فاعليَّةُ التشريعات وجودتُها على مدى استجابتها للواقع السياسيِّ والاجتماعيِّ والاقتصاديِّ، وترتكز أيضًا على واقعيَّة هذه التشريعات وإمكانيَّة قبولها وتطبيقها من قبل المُخاطبين بها، ولذلك فإنَّ أيَّ نقصٍ أو قصورٍ في هذه التشريعات من شأنه أنْ يجعلَ هذه القوانين منفصمةً عن الواقع، وتدخلُ في دائرة الاغتراب التشريعيِّ، ويترتَّبُ عليها آثارٌ سياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة لفاعليَّة الحقوق أو الحريات العامَّة، وما يمكنُ أنْ يترتَّبَ على هذا الإغفال من فراغٍ تشريعيٍّ يُضعف الضَّمانات الدستوريَّةَ المقرَّرة لمُباشرة هذه الحقوق، والتمتُّع بتلك الحريات، وأثرُ هذا الإغفال على تخلخل المراكز والعلاقات القانونيَّة في المجتمع واستقرارها، وهنا يظهرُ دورُ رقابة الإغفال التشريعيُّ التي يُمارسها القضاء الدستوريُّ في مُعالجة النقص والقصور التشريعيِّ وتنبيه السُّلطة التشريعيَّة لحالات الإغفال وقصور التنظيم لتلافيها والحدِّ من آثارها.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.